عبد المجيد سجال
منذ سنة 2013 و نحن نحذر من سيناريو الأزمة الاقتصادية الناجمة عن ارتباط النمو الاقتصادي المباشر بأسعار النفط و ما صاحبه من ارتفاع مطرد في الانفاق الحكومي منذ بداية الألفية إلى غاية سنة 2013 التي كانت سنة الذروة في مداخيل الريع .
ذلك الارتفاع في الانفاق الحكومي صاحبته مشاريع عديدة ذات تضخيم في الفواتير مما ساهم في خلق أثرياء جدد .
دعم فلاحي غير مشروط ساهم كذلك في ارتفاع مستوى المعيشة بالنسبة للفلاحين .
تحسن في أجور العمال و الوظيف العمومي إضافة إلى انتعاش العمل في السوق الموازي ، حيث كان الموظف يستغل الأوقات خارج الدوام لتحصيل فرص دخل معتبرة .
هذا الارتفاع النسبي في الدخل الفردي ساهم في ارتفاع الطلب الاستهلاكي الأسري و تغيير معنى الرفاهية و المنفعة الحدية لدى المستهلك الجزائري .
مستهلك كان قبل بداية الألفية يفكر في الأمن و الطعام فقط ، ثم أصبح يفكر في السيارة و السكن الواسع و اللباس الأنيق .
كان أغلب الجزائريين في الثمانينات و التسعينات ، يعيشون في أسرة كبيرة تضم الجد و الجدة و الأعمام في منزل واحد يدعى الحوش ، مما يعني تقاسم نفقات المعيشة و انخفاض تكلفة الطعام و الاسكان و الطاقة و الماء للفرد الواحد .
لكن بعد الألفينات ظهر تحول اجتماعي كبير ، حيث انتقلنا إلى ما يسمى الأسرة النووية ، أي زوج و زوجة و أبناء في بيت مستقل ، مما يعني ارتفاع تكلفة الطعام و الاسكان و الطاقة و الماء للفرد الواحد . و هذا يعني رفاهية جديدة و يعني أيضا المزيد من الطلب على السكن و العقار .
كان الجزائريون في التسعينات أغلبهم يعتمدون على النقل الجماعي ، لكن بعد الألفينات و انتعاش مداخيل البترول و ما صاحبه من فرص اقتصادية غير مستدامة ، أصبح المواطن يقتني سيارة و أحيانا تجد في الأسرة الواحدة أكثر من سيارة . هذا عن الطبقة المتوسطة و الغنية ، بمعنى أصبح الأستاذ و الموظف يملك سيارة و رجل الأعمال يملك حظيرة سيارات في فيلته .
نظرة خفيفة على أرشيف صوركم العائلية ستدركون الاختلاف في مستوى المعيشة بين التسعينات و الألفينات ، و يبرز ذلك من خلال الملابس ، الحلاقة ، ديكور المنازل ، الوسائل التكنولوجية ، وسائل النقل .
بمعنى أكثر وضوح ، سقف الرفاهية لدى المواطن الجزائري في الألفينات كان مرتفعا جدا مقارنة بسقف الرفاهية لدى مخيال المواطن الجزائري في التسعينات .
لكن هل كانت تلك الرفاهية مستدامة ؟ هل كان الإنفاق الحكومي مبني على خلق للثروة أم على توزيع للثروة ؟ هل كان الدخل القومي مبني على الاستثمار و خلق القيمة المضافة أم مبني على الجباية البترولية ؟ هل كانت الميزانية العمومية مبنية على ما يقدمه المواطنون من ضرائب أم على ما يقدمه برميل النفط من ريع ؟
للأسف الواقع يقول أن كل تلك الطفرة في الدخل و في الرفاهية لم تكن مستدامة البتة ، و الدليل عجز الدولة عن الوفاء بنفس القدرة على الانفاق الحكومي و على المزيد من دعم السلع و الخدمات و تقديم القروض غير المشروطة للشباب أو تشغيل الشباب في عقود وهمية هدفها اجتماعي .
لكن هل المواطن مستعد للتخلي عن الرفاهية غير المستدامة التي نالها في الألفينات ؟ هل الشاب الجزائري سيقبل أن لا يستفيد من نفس الفرص التي استفاد منها شباب الألفينات ؟ هل يمكن للمواطن الجزائري أن ينقل سقف رفاهيته من السكن الواسع و السيارة إلى قلة زيت و كيلو سميد ؟
إن المواطن الذي لا يفقه الاقتصاد سيرفض أن يتخلى عن كل ما سبق ذكره ، و سيطالب بنصيبه في نفس مستوى الرفاهية لكن الدولة ستجد نفسها في مأزق حقيقي ، و هو تعبئة الموارد الكافية للحفاظ على نفس المستوى المعيشي . و عندما تفشل ستضطر للتقشف و تقليص الانفاق الحكومي و الرفع من الضرائب.
هنا تظهر الاحتجاجات الاجتماعية و المطالب الفئوية لرفع الأجور و تحسين القدرة الشرائية و مجابهة غلاء الأسعار و رفض تحريرها ، سيتهرب التجار من الضرائب و يرفعون الأسعار لأن مداخيلهم انخفضت جراء انخفاض الطلب الاستهلاكي ، اما دافعي الضرائب فسينقلون الضريبة إلى المستهلك الأخير و هو ما يساهم في التضخم ، أي نحن فيما يسمى بالركود التضخمي .
كل ما سبق هو محاولة شرح كرونولوجية للانتقال من التسعينات إلى الألفينات إلى الخمس سنوات الأخيرة .
الآتي هو اقتراح الحلول .
لمجابهة زمن البقرات السمان علينا أن نواجه ذلك على مستوى الاقتصاد الكلي أي سياسات الدولة ، و على مستوى الاقتصاد الجزئي أي المستهلك و التاجر و الفلاح و المستثمر .
بالنسبة للدولة عليها أن تنتهج سياسة تقشفية تسمح بتقليص الإنفاق الحكومي في القطاعات الكمالية و زيادة الانفاق في القطاعات الضرورية التي تحفز الإنتاج و الاستهلاك .
أي منح التسهيلات للمستثمرين لمضاعفة الإنتاج ، و منح الأجور الكافية للمستهلكين من أجل الحفاظ على مستوى طلب يضمن استمرار المنتجين في تسويق بضاعاتهم .
هكذا يمكن ضمان استقرار الاسعار من جهة ، و يمكن ضمان موارد جبائية عادية من جهة أخرى و يمكن أيضا تقليص الاحتجاجات الاجتماعية . و كنا قد اقترحنا في هذا الصدد إعادة هيكلة تشكيلة الحكومة و تقليص الوزارات و خفض اجور الإطارات السامية و اتباع استراتيجية الادخار الاجباري . ضف إلى ذلك عقد شراكة مع الصين ، تركيا و إيطاليا لاستيراد خطوط الانتاج و لو بالاستدانة بعيدا عن صندوق النقد الدولي .
ثم بيع خطوط الانتاج تلك للمستثمرين اصحاب الرساميل أو للباحثين عن قروض استثمارية بضمانات مصرفية دقيقة .
اتباع استراتيجية الشاليهات الاقتصادية التي تكلمت عنها في مقالات سابقة و الهادفة إلى التفريق بين اصلاحات الأزمة و الاصلاحات الهيكلية الموازية لها . عد إلى الأرشيف و طالع مقال الكونطر خطة . مقال تغيير العملة ، مقال ضبط السوق الفلاحي ، مقال الثورة الصناعية ، كقال التكوين المهني و التربية الاقتصادية .
أما على صعيد الاقتصاد الجزئي ، فعلى المواطن أن يغير نمطه الاستهلاكي على الأقل مؤقتا و ذلك للحفاظ على هامش مناورة كبير لقيد ميزانيته دون أن يضطر للاستدانة .
سلوكات من قبيل تبذير الخبز ، تناول المشروبات و السكريات ، صنع عشرات الانواع من الحلويات ، التبذير في الطعام ، التبذير في اقتناء الكماليات ، كلها سلوكات لابد أن تختفي لأنها ستسمح للمستهلك بأن يحافظ على جيبه أولا ثم يحافظ على احتياطي سعر الصرف الموجه لاستيراد القمح و السلع الكمالية . ريثما نتخطى الأزمة . و هنا لابد ان نطبق مقولة مالك بن نبي ، نحن لا نعيش لنأكل بل نأكل لكي نعيش .
هذا الأمر سيسمح أيضا بأن تقوم الدولة باحصاء الفقراء الحقيقين الذين يستحقون الدعم ، و هكذا سيقلص من نفقات الدولة على تعميم الدعم .
سبع سنوات من التدبير و التكاتف و التنسيق بين المستوى الكلي و المستوى الجزئي ، ستسمح بتخطي الأزمة ، لكن كل ذلك مرهون بمحددات مؤسساتية سياسية و اعلامية تعتمد على التوافق ، التواصل ، الشفافية ، المشاركة ، المصارحة الوطنية و الادارة الالكترونية .
الوعي الاقتصادي الجماعي + الشرعية السياسية + التخطيط السليم = هي الشروط الضرورية لمجابهة زمن البقرات العجاف ، بعد تخطيها يمكن أن نشرع في خطط تحفيزية هيكلية للاقتصاد الوطني نكون قد حضرنا لها من قبل .
رسالتي للجميع ، لا تستهينوا بحجم الأزمة حكومة و شعبا ، على السلطة ان تستعيد ثقة الشعب و على الشعب بعدها أن يتحلى بالمسؤولية بعيدا عن الأنانية . بل عن طريق الحوافز الدافعة و الرادعة .